الانتخابات …يحسبه الظمآن ماء!! د.غازي حمد

 (1) القفز بين الخيارات

دأب الفلسطينيون على القفز بين الخيارات بسرعة, دونما دراسة معمقة او استحضار للعواقب, وهذا ما تسبب أن (ينحشروا) دوما في عنق الزجاجة التي حاولوا الخروج منها أكثر من مرة دون جدوى.

إن تجربة الخيارات التي خاضوها خلال العقدين الماضيين تقول أن أغلبها لم ينجح أو لم يحقق النتائج المرجوة منها, والتي دفع في سبيلها الكثير من الجهد والنضال السياسي والدماء والشهداء والبيوت الممتلكات.

كنت دائما أقول واكرر بأن معضلة الفلسطينيين تكمن في أنهم يحسنون التضحيات لكن لا يحسنون قطف الثمرة, وأنهم إذا دخلوا مسارا لا يعرفون الخروج منه, وأنهم لا ينتقلون من خيار لأخر إلا بعد استنفاذ الأول واحتراقه, ولا يقررون الأخذ بخيار ما إلا بعد أن (تلزق ظهورهم) في الحائط .

التجربة المريرة التي مررنا بها في خيارات التسوية والمصالحة والتهدئة والانتفاضات السريعة  كلها تنبئ أن الفلسطينيين لم ينضجوا بعد في تقييم وتقدير خياراتهم بشكل سليم, وفي ربطها بالمشروع التحرري, ويغلب عليهم دوما فكرة (الخروج من عنق الزجاجة) تحت وطأة تغير موازين القوى أو تحت ثقل الواقع الاقتصادي والمعيشي.

لذا فان غالب خياراتهم ما تكون اضطرارية لا طوعية !!

ومن ثم يلجأون إلى الحلول التكتيكية السريعة,وليست الإستراتيجية, وعليه فإنهم ينتقلون من عنق زجاجة (أضيق) إلى عنق (أقل ضيقا).. لكن في النهاية هو (عنق زجاجة) بشكل مختلف, او ما يشبه السجن الجميل !!

 (بقلك ما زبطت المصالحة, خلينا نجرب الانتخابات!!)

وهكذا تدخل الخيارات ماكنة التجريب السلطوي/ الفصائلي, دون يقين/ضمان انها ستؤدي إلى شيء من الحلول أو شيء من راحة البال.

إنهم ينحرفون بالخيارات بطريقة عجيبة, ما بين تحرير فلسطين إلى تعايش مع دولة الاحتلال وتقاسم الأرض معها, ومن (قدسية) الكفاح المسلح إلى (أيقونة) الكفاح السلمي, ومن خيار التحرر إلى خيار بناء الدولة(الموهومة), ومن خيار المصالحة الوطنية الشاملة إلى خيار الانتخابات لكيان سياسي غير موجود.

إن هذه المعادلة/العقلية التي حكمت المسار الوطني لسنوات طويلة, وشملت القوى والفصائل وحتى المؤسسات والمجالس, قادت الحالة الفلسطينية إلى حالة أشبه بالتيه وانعدام الرؤية وفقدان عوامل القوة, وأغرت دولة الاحتلال أن تذهب بعيدا في تحقيق أهدافها الإستراتيجية في غمرة الانشغال الفلسطيني في التنقيب عن خياراتهم في صحراء سياسية قاحلة !!

 (2) لا إجابات مقنعة

اليوم (ترفرف) علينا راية الانتخابات باعتبارها المخلص والمنجى من عذابات الانقسام, وحين تسأل أصحاب الشأن يقولون لك بكل بساطة :أعطنا خيارا آخر !! ويشعرون بنشوة كبيرة أنه (حشرك في الزاوية) حينما يقولون انهم جربوا كل الخيارات ولم تنجح, وهذا هو الممر الإجباري الذي يجب أن نمر منه.

أليس هذا دليلا على الإفلاس السياسي وخلو الجيب من رزمة الخيارات (المفتوحة) التي كان يصدح بها مفوهو الفصائل!!

تسأل عن اليوم التالي للانتخابات أو المأمول منها,تكون اغلب الإجابات: ربما.. يمكن ..يحتمل.. لعل وعسى.. خلينا نشوف !!

لا أحد يعطيك إجابة مقنعة انه سيطرأ تحول او تغير ايجابي في الحالة السياسية, او إن هناك احتمالا بنسبة ما لتحسين الظروف الاقتصادية.

يقول لك ببساطة شديدة: المهم نتحرك .. نعمل أي شي, أحسن من حالة الركود التي نحياها !!

أنها مغامرة, الله أعلم إلى أين ستقودنا هذه المرة!!

إن حالة الترهل السياسي واستمرار الانقسام, وعدم التوافق الوطني وتعارض البرامج وارتباطات السلطة الأمنية والسياسية, كلها أسباب وعوامل محبطة لإجراء انتخابات ذات مضمون وطني, فضلا عن أن تكون مفتاحا لانفراج حقيقي.

 (3) خارطة سياسية هشة

إذا ما أجرينا مسحا على مواقف مكونات السياسة الفلسطينية, والغرض من إجراء الانتخابات ستجد تناقضًا واختلاطًا عجيبًا.

الرئيس أبو مازن يهدف لتجديد الشرعية الدولية للسلطة, أملا في زيادة دعم الدول المانحة, رغم أن حركة فتح غير متشجعة للانتخابات بسبب حالة الخلاف التي تعصف بها وانفصال تيار دحلان عنها, وعدم جاهزيتها بالشكل الذي يضمن حصولها على نسبة منافسة لحركة حماس.

حماس, والتي سبق أن وضعت الكثير من (الشروط) مثل المصالحة أولا, رفع العقوبات, وإجراء انتخابات شاملة, قدمت مرونة غير مسبوقة فاجأت الجميع, تبحث عن الخروج من حالة الضغط السياسي والحصار الاقتصادي وحكم غزة المثقلة به, وربما تجدها فرصة وحيدة لإزاحة غريمها أبو مازن من المشهد السياسي, لكن أبو مازن  نجح في أن يحافظ على نفسه رئيسا حتى انتهاء الانتخابات التشريعية ليرى رأيه في نتائجها ويحدد ما هي الخطوة التالية.

حماس, ورغم رفضها القاطع لمسار أوسلو والتزامات السلطة السياسية والأمنية, وافقت على إجراء الانتخابات بالطريقة التي رغب بها أبو مازن, ولم تشأ ان تضع عقبة في طريقه.

كان بإمكان حماس ان تصر على موقفها بربط الانتخابات بالرؤية والتوافق الوطني وعدم تركها هكذا مجردة من سياجها الوطني, خاصة أن هذا مقبول على كل القوى السياسية, ومبادرة الفصائل الثمانية أكبر دليل على ذلك.

إن حماس ستجد نفسها بعد الانتخابات – أن أجريت- أمام أسئلة وتحديات كبيرة, عليها أن تحضر نفسها لها جيدا, خاصة في إطار الإصلاح السياسي وتصويب البوصلة الوطنية وفي تعزيز المشروع المقاوم وخروج غزة من عنت الحصار.

الانتخابات, مهما كانت نتائجها, لن تعفي حماس من مسئوليتها السياسية والوطنية, ولن تجد الوضع بعدها أسهل عليها كما يتصور البعض, باعتبار أنها أصبحت لاعبا رئيسا وفاعلا في الساحة الوطنية.

الجهاد الإسلامي يرفض الانخراط في الانتخابات,باعتبار أن ذلك ترسيخا لسلطة أوسلو وبرنامجها السياسي, والجبهة الشعبية مترددة إلى حد كبير بالمشاركة, أما الفصائل الأخرى فإنها تجد في الانتخابات الطريقة الوحيدة لإبقاء حضورها السياسي رغم قناعتها أنها لن تسجل فوزا ما لم تستظل بمظلة قوى ذات ثقل سياسي.

من يطرحون أنفسهم (كمستقلين) حتى الآن لا يشكلون قوة بديلة منافسة للقطبين الرئيسين, وربما تنشا الكثير من المجموعات –على عجل- لمحاولة اختراق البوابة السياسية, رغم أن اغلبها لا يملك برامج سياسية ذات قدرة على التأثير والتغيير!!

هكذا ستنشأ حالة فلسطينية غير منسجمة, متضاربة ذات أغراض وأهداف متعددة.

(4) دخول البيوت من أبوابها

يجب الإدراك, أولا وقبل شيء, أن الأصل في الحالة الفلسطينية هو الوطن وليس السلطة.

ما لم تستند الانتخابات إلى حوار وطني وشامل يضع الانتخابات في مكانها الوطني الصحيح,فإنها كمن (يزرع في البرص بطيخ) !!

من يقول سنجري حوارا بعد الانتخابات فهذا كمن يضع العربة أمام الحصان, لأنه إذا صدر المرسوم جفت الأقلام!

أبو مازن ليس من هواة الحوار الوطني, ولا يريد للانتخابات أن تحدث تغييرا على المسار السياسي الذي اختطه من ربع قرن.

وأما من (يتذاكى) أن الانتخابات لن تجرى, وأنها مجرد مناورة, فهذا نوع من المجاراة العبثية التي لا تليق بحالة وطنية مأزومة.

إن أولوية الفلسطينيين تحت الاحتلال ليست في إصلاح/تجميل الوضع السلطوي أو الإداري, بقدر ما هو تحديد الرؤية والمشروع الوطني, لكن للأسف فان الهرم مقلوب, وبدلا من دخول البيوت من أبوابها الصحيحة (المشروع الوطني والبرنامج السياسي) فان حالة التيه والاضطراب وضغط الحال وتقلص الخيارات تلجئنا إلى الأبواب الخطأ.

الانتخابات – بحسب التجربة- لن تكون من (طينة) أخرى أو حجرا ينزل من السماء , فالعقلية التي أدارت المصالحة والملفات الوطنية هي نفس العقلية التي ستحكم مسار الانتخابات, ومن ثم فان النتائج ستكون واحدة.

كالعادة, سنقطع مشوارا طويلا ثم نكتشف بعد طول مسير ان نهايته مسدودة, ثم نبدأ البحث من جديد عن خيارات أخرى.

إن المطلوب هو إعادة تقييم الحالة الوطنية وتحديد الخيارات العملية والمجدية لتحقيق الأهداف الوطنية المشروعة, وليس اللجوء إلى (الوجبات السريعة).

الانتخابات يجب أن تكون نتيجة توافق وليس العكس!!

يكفي أننا أضعنا سنوات طويلة ونحن نتقلب بين الخيارات والحلول المجتزأة, ولزم أن يكون لدينا, بعد هذا المشوار, درجة عالية من النضوج الوطني والسياسي لننتقي من سوق الخيارات ما هو أجدى وأصلح.

مرة أخرى: لا تجعلوا الحالة الفلسطينية حقلا للتجارب !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com