ذكرى  مجزرة مخيم البرج الشمالي 1982

 125 شهيداً في دقائق وناجون من المجزرة يروون مشاهداتهم

سمية مناصري

لقد كانت المجازر ولا زالت إحدى الأدوات الرئيسية التي يستخدمها الكيان الصهيوني لإفراغ الأرض من أهلها ، وأن إجراء مقارنة بين الجرائم التي ارتكبها الصهاينة إبان قيام الكيان الصهيوني والجرائم التي لا زالوا يرتكبونها إلى اليوم ، تجعلنا على يقين أن الإجرام الصهيوني ليس له حدود وهو مستمر بلا شك في طغيانه وإرهابه.

كنت قد استمعت إلى الكثير من الروايات الشفوية عن بطولات المقاومة الشعبية وعن أعمال القتل الوحشي التي مارستها القوات الإسرائيلية في حق المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين في المخيمات وفي جوارها، بيد أن ما أثار اهتمامي ندرة المعلومات المدونة عن المأساة المروعة التي تعرض لها سكان مخيم البرج الشمالي ، نتيجة قصف الطيران الإسرائيلي المتعمد لملاجيء المدنيين الذي راح ضحيته في يوم واحد (7/6/1982 ) وخلال ساعات معدودة نحو 125 من سكان المخيم نساءً وشيوخاً وأطفالاً .

لقد حاولنا تصوير مشهد الحرب في مخيم البرج الشمالي من خلال عدد من الشهادات اخترنا أصحابها من أهالي الضحايا المقربين أو الأشخاص الناجين القليلين ممن كانوا في الملاجئ والمغاور التي تعرضت للقصف.

شهادات ذوي الضحايا:

كمال جمعة مشيرفة (أبوالعز) أمين مكتبة عامة في مخيم البرج الشمالي:

فقد كمال مشيرفة جميع أطفاله وعددهم خمسة: فدوى 8 سنوات، وفادي 6 سنوات، وفاتن 4 سنوات وأيضاً التوأم فراس وإيهاب ستة أشهر ، ومريم هي زوجة كمال مشيرفة (أبو العز) وهي واحدة من الناجين من مجزرة ملجأ نادي الحولة، يحدثنا كمال قائلاً:

على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام1982 استبسل الشعب الفلسطيني بالدفاع عن المخيمات الفلسطينية عندما حاول العدو محاصرة هذه المخيمات واحتلالها، برز في المخيمات أطفال الـ آر بي جي الذين دافعوا عن المخيمات وقتلوا العشرات من الجنود الصهاينة ورفضت المقاومة الشعبية الفلسطينية المسلحة بأسلحة بسيطة الاستسلام للعدو بل قاومت دبابات العدو التي كانت تحاصر المخيم ودمرت ما يزيد عن 8 دبابات وقتلت العديد من الجنود، وحاول العدو الدخول إلى المخيم من أكثر من محور ولكن كل محاولاته باءت بالفشل ، لأن شباب المليشيات تصدت لهم ببسالة مما أثار غضب الصهاينة وبدأوا بقصف عشوائي بالطيران واستهدفوا الملاجيء البسيطة التي تأوي الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين وكل ما يتحرك داخل المخيم.

وكان قد لجأ نساء وأطفال المخيم إلى هذا الملجأ ( ملجأ نادي الحولة) ظناً منهم أنه سيحميهم ولكن العدو الجزار أستعمل القنابل الفسفورية الحارقة والتي خرقت جدران ملجأ وانفجرت داخله وكان يأوي ما يقارب 96 شخصاً ما بين نساء وأطفال وشيوخ ومدنيين عزل ، وأدى انفجار الصواريخ إلى إحراق كل من كان في الملجأ وصهر أجسادهم التي امتزجت ببعضها بلا تفرقة بين أجساد الشيوخ والنساء والأطفال.

أخبرني شخص وبشكل فجائي بأن زوجتي وأطفالي الخمسة قد استشهدوا داخل الملجأ الذي كان يحميهم ، فذهبت باتجاه الملجأ ودخلت من الطاقة الصغيرة التي أحدثها الصاروخ ، كان الظلام دامساً في الداخل هناك صوت أنين بعض الجرحى لم أشم سوى رائحة الكبريت حيث كانت قوية جداً وأجساد الناس كانت ملتصقة ببعضها البعض ، سمعت أنيناً لصوت إمرأة تطلب المساعدة حاولت المسك بيدها فسلخت من جسدها لشدة الحرق لم أتمكن من مساعدتها ، أما الأطفال الذين خرجوا من الملجأ كان يمشون على أقدامهم ولكن لمسافة قصيرة جداً وبعدها يموتون، وخصوصاً عندما يتنشقون الهواء أو يشربون الماء.

كانت زوجتي تحمل أحد أطفالي التوأمين وأختها تحمل الآخر كانتا تجلسان أمام باب الطواريء للملجأ ومن شدة ضغط الصاروخ قذف بهما إلى خارج الملجأ لمسافات بعيدة ، ساعدها بعض الأشخاص ونقلوها إلى أقرب ملجأ في المنطقة وكانت كثيرة التشوه ومتفحمة، لم تكد ترى بأعينها لشدة الحروق ، كان في المنطقة طبيب واحد هو الدكتور محمود عطايا يعمل لمساعدتها لكنه لم يمتلك سوى المعدات البسيطة والأولية لمساعدة الجرحى ، بعد ذلك تم نقل زوجتي إلى الصليب الأحمر في صور ولم يتمكنوا من معالجتها فنقلوها إلى الأراضي الفلسطينية لأحد مستشفيات العدو الصهيوني للعلاج وبقيت ما يقارب الإسبوعين ، خلال هذه الفترة كانت تظن بأنها ستعود إلى البيت لترى وتطمئن الى أطفالها ولكن كانت الصدمة الكبرى لها كانت عندما عرفت انها فقدت جميع أطفالها وإلى الأبد ، وبدأت المعاناة النفسية والجسدية بعد ذلك.

وقفت مشدوهاً بحيرةٍ أمام هكذا منظر

فدوى أمامي تنادي بابا بابا أنا بردانة ؟؟؟!!!!!

الله اكبر …

ثوبها محروق وممزق والجسم أسود كالفحم

ترتجف أمامي باكية وقلبي يكاد ينفطر

ماذا عساي أن أفعل غير ضمها بحسرة من القهر.

أنين فدوى وفادي وفاتن ، يحيرني

خمسة أطفال أفقدهم وبلمح البصر يفارقونني وموقفي العاجز حينها أصابني بالجنون.

مات أطفالي الخمسة أمامي ولم أتمكن من فعل شيء على الإطلاق …

الشهداء في هذا الملجأ من عمر 6 شهور إلى 75 عاماً نساء وأطفال وشيوخ.

الشهادة الثانية هي:

كمال حسن ذيب المشهور بالمختار وقد ورث هذا الموقع الاجتماعي عن والده ، فقد كمال المختار في مجزرة ملجأ الحولة ما يقارب 37 شخصاً من ذويه منهم زوجته وثمانية من أولاده ووالدته وأخيه وزوجة أخيه وأولادهما الثمانية وأيضاً أخته وأولادها والكثير من أقاربه.

يحدثنا المختار بأنه كان يجلس عند الملجأ منزله قبيل حدوث القصف ويدخن نفس نارجيله، فطلب مني أحد الأقارب ماءً ليشرب فذهبت إلى بيتي لأحضر الماء وفي هذه الأثناء حدث قصف الملجأ ، لم ارَ سوى لحم البشر يتطاير في السماء، من شدة القصف أسرعت بإتجاه الملجأ فلم ارى سوى جثث هامدة بلا حركة صرخت بصوت عالٍ لقد مات جميع أولادي بالملجأ …..

كان هناك البعض القليل جداً ممن بقوا على قيد الحياة يئنون من شدة الألم فحاولنا إنقاذهم وإخراجهم خارج الملجأ ولكن عندما كانوا ينتشقون الهواء أو يشربون الماء يموتون مباشرة ، وزوجتي وأولادي كانوا متوفين ولا يوجد في أجسادهم حياة ولكن ابنتي شما كان عمرها آن ذاك 18 سنة أصيبت إصابة بليغة وعمل الصليب الأحمر على مداواتها ولكنها لم تتحسن فنقلوها إلى الأراضي الفلسطينية للعلاج في إحدى مستشفيات العدو، ذهبت ولم نعرف عنها أي شيء بقينا على هذه الحال لمدة طويلة جداً ، لغاية ما حصل تبادل في فترة ما بعد العام2004 حيث أخبرونا بأن جثتها مع باقي الشهداء واجرينا فحصاً للـ DNA حتى نتأكد

وبعد صدور النتيجة تأكدنا بأنها هي إبنتي شما ، وعندما تسلمنا جثتها اجرينا لها جنازة رمزية وأطلق أبناء مخيم البرج عليها إسم عروسة الشهداء وتم دفنها في مقبرة الشهداء في مخيم الشهداء البرج الشمالي .

الشهادة الثالثة هي للحاج نعمة مصطفى عبد الله يخبرنا قائلاً: ” ليلة السابع من حزيران عام 1982 نقلت زوجتي وأولادي إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل الواقعة في محاذاة المخيم ، وعندما بدأ القصف التدميري للمخيم بعد ظهر اليوم نفسه أدركت بإحساسي أن أولادي قتلوا وكنت قد غادرت ملجأ روضة النجدة الاجتماعية قبل خمس دقائق من قصفه حيث استشهد فيه 13 شخصاً .

أسرعت إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل بحثاً عن أسرتي فقيل لي أنها انتقلت إلى ملجأ نادي الحولة عندها صدق حدسي ولا أدري كيف وصلت إلى الملجأ وكانت الطريق إليه مغطاة بركام الأنقاض ، وحين نزلت إليه كانت الجثث محترقة والضحايا عراة بعد أن احترقت ملابسهم “شعري شاب بمجرد ما رأيت المشهد”….

قالوا لي نقلنا أختك إلى مستوصف من أجل إسعافها لأنها محروقة وعيناها لا ترى بهما وأختي الثانية زينب قد إستشهدت في الملجأ، فقدت صوابي ودخلت في نوبة طويلة من البكاء وكان في الملجأ أولادي وأولاد أخي .

انتشلنا الأولاد من الملجأ وكان بينهم إبنتي رانيا التي كانت تتعلم وقتها في روضة النادي أخذتها إلى أقرب مستوصف فقال لي الدكتور محمود عطايا ما في أمل في شفاؤها، عدت إلى الملجأ للمساعدة في عملية الإنقاذ رفعت طفلة عمرها ما يقارب الأربعة أشهر من على صدر أمها التي فارقت الحياة لم يتعرف أحد ‘لى هذه الطفلة فقلت ” خلص هالبنت إلي بربيها والله بيعوضني فيها” لكن الطفلة ماتت بمجرد أن لامس الهواء جسدها.

صباح يوم 8 حزيران قررنا أنا وأخي نقل من بقي حياً من الأطفال إلى مقر الطوارىء في قانا على امل أن يتم إنقاذ أحد منهم وعرفت فيما بعد وكنت حينها في معتقل أنصار وعن طريق الصليب الأحمر الدولي أن الأولاد نقلوا إلى مستشفى تبنين ولم يعودوا من هناك.

عدنا إلى المخيم وأدركنا أنه لا بد من دفن الشهداء. بعد دفن زوجتي وأولادي كدت أفقد صواب ” لم يعد لي أي شيء في الدنيا” .

الشهادة الأخيرة هي للشهيدة الحية كما أطلقوا عليها لمعات محمد طه التي تخبرنا: ” كان عمري وقتها 13 عاماً، بعد ضرب الملجأ بصاروخين لم أعرف كيف خرجت من الملجأ ولم أعرف أين أذهب كان جسدي محروقاً وفيه تشوهات، مشيت مسافة قصيرة وأحد الأشخاص نقلني للإسعاف خارج المخيم ولكن الصهاينة بدأوا بإسعافي بشكل أولي وأبقوني في الطريق ساعات طويلة لأنهم كانوا يطلبون من أبناء المخيم أن يسلموا أنفسهم، وبعد الانتظار ساعات طويلة نقلوني إلى مستشفى تبنين بقيت هناك للعلاج مدة أسبوعين وبعدها تم نقلي إلى الأراضي الفلسطينية للعلاج عن طريق نجمة داوود الحمراء التابعة للعدو الصهيوني.

حاول الصليب الأحمر زيارتي لكن عناصر العدو منعوهم بعدها عملوا على زيارتي سراً ، بقيت هناك ما يقارب الشهرين ، حاول الصليب الأحمر نقلي إلى لبنان لكن عناصر العدو رفضوا وكأنني في حالة اعتقال وليس فترة علاج كنت أتألم من شدة الحروق والتشوهات التي كانت بجسدي، طيلة فترة العلاج كان الجنود الصهاينة يضعون السلاح على رأسي وأنا أتلقى العلاج داخل السرير كانوا يعذبونني كثيراً وأحياناً يضعونني لوحدي ويفتحوا خرطوم الماء على جسدي المحروق .

بعد أن أمضيت 20 يوماً في مستشفى العدو وإذ بشخصين أحدهما مترجم والآخر يحمل معه باقة ورد ويقدمها لي ويقول أنا الطيار الذي قصف الملجأ لم أكن أعرف أنه يوجد داخل الملجأ أطفال ونساء ، أخذت باقة الورد وضربته بها وقلت تقتلوننا وتهدوننا ورود ، صفعني على خدي بشكل مبرح، كانوا يعزلونني بمفردي عدا عن التعذيب، بعد مضي شهرين من العلاج والتعذيب عدت إلى لبنان”.

ليس هذا هو الملجأ الوحيد الذي قصفه العدو بل هناك عدة ملاجي وهي:

ملجأ نادي الحولة 94 شهيدأ

مغارة حي المغاربة

مغارة علي الرميض أبو خنجر

ملجأ روضة النجدة الإجتماعية

تم دفن معظم الشهداء في مكان الملجأ وتم انشاء نصب تذكاري في مكان كل ملجأ، وبعض الشهداء تم دفنهم في مقبرة الشهداء مكان الجندي المجهول.

إن الوقائع الجافة ليس لها أن تصور تصويراً حياً نابضاً بالأحاسيس والمشاعر، التجربة التي عاشها مخيم الشهداء مخيم البرج الشمالي خلال يومين من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إنها تنبئنا بصورة تقريرية فقط بواقع التجربة من دون أن تجعلنا نعيشها حقاً مع من عاشوها ، فهم عاشوا زمن التجربة ونحن نعيش زمناً آخر …. زمن ما بعد التجربة.

?? شبكة الساحل الإخبارية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com