قراءة في كتاب  (قيد وورد) سيرة ذاتية للاقتصادي الفلسطيني محمد مسروجي/ عمر رمضان صبره

(محمد مسروجي) رجل من رجال الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وصاحب البصمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في فلسطين التي لا يمكن القفز عنها. فإن أردت الكتابة عن رجال الأعمال والمستثمرين ومؤسسي الصناعة الدوائية أو التأمين في فلسطين فلا يمكن أن تغفل دوره ومكانته.
كتب سيرته الذاتية (قيد وورد) لتكون شهادة صادقه من رجل غيور على وطنه فلسطين المحتلة عبر محطات تاريخ الاحتلال الصهيوني الطويل، ولتكون شهادة بين العامّ بتجاربه السياسية ومعاناة السجن والتعذيب والقهر، وتجاربه الخاصة عن بناء أسرته وشركاته وأعماله الخاصة ومساهمته المجتمعية.
صدر كتاب (قيد وورد) سيرة محمد مسروجي عن دار طباق للنشر والتوزيع عام 2023 بصفحاته الزاخرة في  292 صفحة، ابتدأها بإهداء مسيرته إلى أحفاده الذين هم امتداد له كما يقول، ليدركوا أن الحياة هي عمل جاد ودروب وأن لا شيء يتحقق بالأمنيات. ومقدما شكره لكل من د. عوني شحرور و د. بشار الكرمي لطلبهما كتابة سيرته الذاتية وتجربته، وكذلك لطارق عسراوي الذي كتب هذه السيرة، وابنته ربى التي أشرفت على إنتاج الكتاب.

ورحلة (أبو اياد) رحلة عامرة بأعوام من الأمل والتفاؤل، وأيضا بسنوات من الإخفاقات.. حقق فيها إنجازات جميلة وعلى رأسها تأسيس أسرة متواضعة مترابطة جميلة،  محبة للوطن وللحياة ومحاربه للمنتوجات الإسرائيلية التي لم يتاجر بها قط، ولم يحصل على وكالات منتجاتها. (أبو اياد) ليس كاتباً ولا محترفا سياسيا ولا مقاتلا بارعا.. هو إنسان فلسطيني عروبي كان منتميا لحزب البعث في بداية حياته، فسيطر على فكره ودفع ثمنا غاليا لهذا الانتماء في السجون لسنوات صعبة لا يعرف قسوتها إلا هو وأمه، التي نالت نصيبا من هذا التعذيب والقهر. وهو الأكثر قدرة على فهم بيت الشاعر طرفة بن العبد:  وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً   عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.
وترجع أصوله إلى عائلة فلسطينية متشبثة بالأرض من منطقة الخليل، وعاش في القدس، ثم انتقل للعيش ولا يزال في مدينة البيرة. وهو مواليد القاهرة حي شبرا عام 1935.

 امتازت سيرته بالصدق في كل ما كتبه، حتى أنه باح بأسرار عائلته بما فيها من مشاكل الميراث!
لا يمكنك أن تكتب عن (أبو اياد) مقالة واحدة فهي لن تفيه حقه.. فهو يصف لنا طيلة صفحات الكتاب حياته الشخصية، والحياة العامة، وواقع الحال الذي عاشه طيلة هذا الزمان الطويل من عمره المرتبط بعمر القضية الوطنية، ويصف حال شعبنا بشهادته وانتمائه الفلسطيني والعربي.
يقول: (أعتبر نفسي محظوظاً إذ عشت الكثير من المتغيرات سواء في مجال الاتصالات (التلفونات والراديو والتلفزيون والبريد) أو في مجال المواصلات، وكذلك في تطور العلوم والفنون والنقلات الحضارية).
(أبو اياد) الذي تنقل بين فلسطين والعراق التي درس فيها وعاد بعدها إلى فلسطين حاملا فكر حزب البعث العربي، وأصبح مدرسا في مدارس وكالة الغوث كتب عن تلك المرحلة (تجربة الدراسة ونشاطاته الحزبية والنقابية، وتطلعات الأمة والحزب، ومناكفات الحزب مع السلطة..).وينقل ما كتبه عبد الله الريماوي أحد زعماء حزب البعث في حينه في صحيفة اليقظة البعثية عن وفاة توفيق ابو الهدى أحد رؤساء الحكومة الأردنية في حينه (مات توفيق أبو الهدى.. رحمه الله بقدر ما أفادها).
وبعد انتخابه أميناً عاماً لنقابة معلمي ومعلمات الوكالة في الأردن منع من السفر مدة سنتين، وفصل من كلية الحقوق، وأصبح أمامه الخيار بين دراسة التاريخ أو الفلسفة، فاختار التاريخ.. فكانت إحدى نتائج هذا التغيير أن تغير مجرى حياته.. فبعد طموحه بأن يكون محامياً اختار له القدر أن يكون أستاذا ثانويا، وحمل شهادة جامعية في تخصص التاريخ.
ولقد عاش تجربة السجن ومرارته، إذ سجن عدة مرات، وتنقل بين عدة سجون مثل سجن اريحا، وسجن بيت لحم، وسجن القدس، وسجن عمان المركزي، وسجن الزرقاء العسكري، وسجن المخابرات في العبدلي، وسجن الجفر الصحراوي،.. بمدد مختلفة وصل مجموعها إلى أربع سنوات وذكر في صفحه 67 (أذكر خلال وجودي في ذلك المعسكر أني لم أكن أستطيع أن أخدم نفسي حتى في الذهاب لقضاء حاجتي، وتعرضت مع زملائي في تلك الفترة إلى أشكال مختلفة من التعذيب والإهانات والضرب، واتهمنا كمعلمين بأننا نعلم الشيوعية بدل الدين).
يقول أبو إياد الناقد والغيور على أمته العربية عن حالها في الخمسينيات من القرن الماضي معبرا عن رأيه في الرئيس جمال عبدالناصر  في صفحة ٥٨ (أصبح يحسب للأمة العربية ألف حساب، ومع ذلك فقد ارتكب أخطاء مميتة، وأهمها أنه حل الأحزاب، وألغى دور الشعب في كافة القرارات وخاصة المصيرية منها، وكذلك اعتمد في حكمه على المخابرات التي عاثت في الأرض فساداً، أما هو فقد كان إنسانا نزيها مخلصا عاش ومات في منزله الذي كان يقطنه قبل الثورة).
ويعد الكاتب عام ١٩٥٨ عاما تغير فيه مسار حياته، فبعد فصله من عمله كمدير مدرسة ونقيب لمعلمي ومعلمات وكالة الغوث في الأردن، قبل وظيفة مندوب مبيعات لشركة مستحضرات طبية، واستمر بالعمل معها ثم تنقل للعديد من الوظائف.. إلى أن بدأ تأسيس مشاريعه الخاصة، ثم تنقل حول العالم من أجل مشاريعه ليصل إلى النجاح الذي يطمح إليه، فأسس مجموعات من الشركات في مجالات الأدوية، والمستحضرات الطبية والبيطرية والتجميل، والتأمين، وتكنولوجيا المعلومات، وإدارة الأوراق المالية في فلسطين والأردن والجزائر.
ولم يبح أبو إياد بكل الأسرار الخفية.. إذ لديه من الأسرار والمعلومات التي لا يريد البوح بها.. منها ما ذكره على سبيل المثال عن قصة السيارة التي تركها في أوروبا وتبين له أن زميله في الرحلة قد أخفى سلاحا بالسيارة التي تركها وتعطلت ولم يذكر اسم الزميل.
ابو إياد الجميل المقاطع للبضائع والمنتوجات الإسرائيلية يقول في صفحة 136 (وأفتخر كوني حتى هذه اللحظة لم أتعامل مع أي منتج إسرائيلي، سواء في عملي أو في المنزل، ولم أخضع لإغراءات العروض التي قدمت وأتيحت لي للتجارة بالبضائع الإسرائيلية).

وقد تحدث الكاتب عن عائلته باستفاضة.. عن تجربة الدراسة والعمل..عن زوجته التي ضحت وعاشت من أجل تربية أسرتها.. مرورا بأولاده إياد الصيدلي ورجل الأعمال.. وهيثم الذي يعمل في شركات عائلته إلى أن جعلها مجموعة مسروجي.. وابنته ريم التي تعمل في شركات العائلة.. وربي التي تعمل أيضا في شركات العائلة وهي الأكثر التصاقا بالقضايا العامة وترأس جمعية إنعاش الأسرة التي أسستها المناضلة سميحة خليل.. كما يتحدث عن أحفاده وأصهاره.. فهو يقول إن أبناءه ثمانية وليس أربعة.
ومن الحكم الجميلة في تجربته التجارية الرائدة أن له فلسفه خاصه حول الشراكة (ما دام هناك مناصفة في الشراكة، ففك الشراكة يتم أيضاً بالمناصفة).
ولعل من الأهمية بمكان أنه عندما يحتاج باحث في أعمال الشركات العائلية، أن يتناول بالدراسة شركات مسروجي وعائلته، التي تعد من أنجح الشركات العائلية في فلسطين، وتجربة تستحق البحث عن أسرار نجاحها.

ونورد شهادته في ( قيد وورد) عن القيادة البديلة في سنوات الثمانينيات من خلال رأي له في أحد المؤتمرات (أن يكون هناك مجلس للاقتصاد، ومجلس للتربية والتعليم، ومجلس للصحة وإلى آخره وتكون هذه المجالس بمثابة وزارات يرأسها شخص، وتجتمع هذه المجالس لبحث الشؤون العامة في فلسطين) اكتشف أن رأيه لم يسجله المرحوم فيصل الحسيني، فسأله لماذا؟ فقال له: ألا تعرف أن هذه تفسر بأنها قيادة بديلة.

وتحدث أيضا عن الاحتلال الإسرائيلي وقمعه وإرهابه خلال الانتفاضة الأولى، وعن إيجابياتها وسلبياتها والأعمال غير الإنسانية من بعض من استغلوها من أجل مكاسب شخصية واستغلال النفوذ.
يقول الكاتب في أحد لقاءاته مع الرئيس أبو مازن خلال حملته الانتخابية (قلت له يا أخ أبا مازن سؤال يراودني منذ سنين ولم أجد الإجابة عنه.. لقد استثمرت المنظمة الكثير من الأموال في بلدان العالم ما عدا بلدا واحداً اسمه فلسطين لماذا؟ فأجابني بقوله: معك حق وهذا خطأ كبير ارتكبته المنظمة).
وتحدث عن أعماله الاجتماعية من تأسيس جمعية أصدقاء جامعة بيرزيت، ونادي شباب الأمعري، ومؤسسة الحق، ومفتاح، وملتقي الفكر العربي..  إلى جمعية رجال الأعمال الفلسطينية، وجمعية رجال الأعمال العرب، والمجلس التنسيقي.. إلى مشاريعه الخاصة مثل مدارس المستقبل، وشركة التأمين، وبنك الاستثمار، والشركات والاستثمارات الأخرى.
ويحدثنا أبو اياد عن تجربة صعبة ومريرة في أعماله واستثماراته.. كعرض بيع مستشفى جبل داود في بيت لحم المملوك لجمعية أمريكية وتم شراؤه بالمزاد العلني بقيمة ستة ملايين دولار من خلال شركاته وبعض الشركاء، وعند التسجيل توقف المشروع لأسباب إجرائية، فتحدث عن حوار طويل بينه وبين الرئيس الراحل أبو عمار عن وقف عمليه البيع وتعطل المشروع نتيجة طلبه شراكة 30% من المشروع.. فظل المشفى مغلقا رغم أن فكرة شرائه هي من أجل تطويره ليصبح مشفى متخصصا يخفف من التحويلات الطبية الخارجية، إلى أن تم بيعه إلى الكنيسة الكاثوليكية التي يمثلها البطريرك فؤاد طوال بقيمة عشرة ملايين دولار.

كما تحدث بمرارة عن رحلته إلى الديار الحجازية إذ قام بأداء فريضة الحج مع عائلته، حيث قامت زوجته بتسجيله لرحلة الحج.. فكانت رحلة حج سياحية مريحة وصفها بقوله (قضينا يومين في المدينة المنورة التي تختلف نسبياً في تنظيمها ونظافتها وحتى في معاملتها عن مكة المكرمة، وكانت تلك الزيارة متعة إضافية أيضاً لما تمتعنا به في هذه الرحلة المميزة جسدياً ونفسياً وروحيا، إنني أورد هذه التفاصيل لكي تعكس الفارق بين مستويات أداء مناسك الحج داعيا إلى أن تكون ميسرة لكافة الحجاج) ص257.
وختاماً..
هذا كتاب يستحق القراءة والتأمل في تجربته الرائدة في العمل الوطني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فهي من التجارب الناجحة.. ويختتم الكاتب كتابه بجملة تلخص تجربته وتطلعاته وآماله و نصائحه (وفي قرارة نفسي أشعر أنني نجحت في أهم مشاريع حياتي وأعني أسرتي، وهذا أجمل ما حققته خلال هذه المسيرة، وأراهم ورد حدائق الحياة اليانعة، والحمد لله أيضاً أن أهم ما يتطلع إليه الإنسان هو الصحة، فأنا اتمتع بصحة جيدة وأمارس عملي، وفي هذه السن أـقوم بواجباتي في مختلف المجالات، وقد يكون ذلك بعد فضل الله بفضل التفكير الإيجابي وعدم الأنانية وتقديم المصلحة) ص257.
كتاب قيم يستحق القراءة.. رغم أن الكاتب لم يبح إلا بجزء قليل من مخزون تجربته التي بدأها مدرسا ثم نقيب معلمين وعضوا في حزب البعث العربي، إلى موظف ثم مؤسس شركات من أنجح الشركات في البلد.
وهو من كتب السيرة الذاتية الناجحة والأقرب للحقيقة، وأقترح على أبو إياد أن يقدم لنا المزيد من تجارب نجاحه في عالم المال والأعمال بكتاب جديد او حلقات متلفزة مسجله على غرار شاهد على العصر.

كاتب فلسطيني مقيم برام الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com