جرائم الحرب في غزة.. هل تفلت “إسرائيل” مرة أخرى؟ بقلم: أ. د. محسن محمد صالح

حتى اليوم السابع عشر من عدوانها على قطاع غزة، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي نحو 4,651 فلسطينياً وأصابت أكثر من 14 ألف شخص، حسب إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، التي أشارت إلى أن 70% من الضحايا هم من الأطفال والنساء والمسنّين.

هذه المجازر التي ارتُكبت في حق المدنيين العزل، الذين لجأ بعضهم إلى مستشفيات ومساجد وكنائس يفترض أنها آمنة، طالت 433 عائلة. وفي حين انتشلت جثث 2,421 شهيداً، ما زال المئات تحت الأنقاض. وحسب الصحة الفلسطينية فإن هناك نحو 1,300 بلاغ من العائلات عن مفقودين تحت الأنقاض منهم نحو 600 طفل.

تقع هذه المجازر المستمرة على مرأى ومسمع من العالم، بينما يتابع الاحتلال جرائمه دون أن يأبه بحقوق إنسان، ولا برأي عام عربي أو عالمي. بل يتجرأ على تقديم جدلية وقحة حول ما يسمّيه “حقَّه” في الدفاع عن النفس، وفي اتهام حماس وقوى المقاومة بـ”الإرهاب” وقتل المدنيين، وهو أمر ينافي الحقيقة بشكل قاطع.

وبلغ الاستخفاف لدى الاحتلال بردود الفعل العالمية إلى أن قصف جيش الاحتلال مستشفى المعمداني في غزة ما أدى إلى استشهاد 500 فلسطينياً وإصابة 28 بجروح حرجة، و314 آخرين بجروح مختلفة.

الإرهاب في الأيديولوجية الصهيونية

يبدو الإرهاب أصيلاً في بنية الأيديولوجية الصهيونية. ولأنها استعمار استيطاني يسعى للتخلص من السكان الأصليين، فقد كان يُدرك مُنظِّروها أن أصحاب الأرض سيقاومون بالتأكيد، وبالتالي جعلوا قتل الأمل لدى الفلسطينيين، إحدى آليات محاولة إنشاء جدار من الخوف والرعب فيهم، حتى يصلوا إلى الاستسلام واليأس المطلق.

ولذلك، فإن فلاديمير جابوتنسكي “فيلسوف العنف” في الأيديولوجية الصهيونية، والأب الروحي لمناحيم بيغن ولحزب الليكود الحاكم، كان يقول إن “السياسة هي القوة”، وإن “ما لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بمزيد من القوة”، وإن المشروع الصهيوني يرتبط تقدمه بقوة سلاحه. وتبنى جابوتنسكي فكرة “الأنانية المقدسة” التي تعني حتمية التضحية بالآخرين، لإنجاز المشروع الصهيوني.

وعلى هذا المبدأ تبعه تلميذه بيغن الذي أصبح رئيساً للوزراء، والذي كان له الدور الأساس في مجزرة دير ياسين سنة 1948، وهي الأشهر في التاريخ الفلسطيني الحديث، إذ لم يتردد في أن يقول عنها بصلف إنه “لولا دير ياسين وأخواتها لما قامت “إسرائيل””!

قطاع غزة.. مجازر متواصلة

منذ أن فازت حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية وتشكيلها للحكومة 2006، توالت الحملات العسكرية الإسرائيلية والمجازر على القطاع في محاولات شرسة لإخضاعه وسحق المقاومة.

وتوالت من مذبحة عائلة هدى غالية في عام 2006، إلى أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في حملة “غيوم الخريف” في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه وحملة “الشتاء الساخن” عام 2008 وغيرها.

وفي المعارك أو الحروب الكبيرة التي اعتدى الاحتلال فيها على القطاع تعمَّدَ استهداف المدنيين. ففي معركة الفرقان، التي يسميها الإسرائيليون “الرصاص المصبوب” التي باغت فيها الجيش الإسرائيلي غزة بعدوانه في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 قُتل 230 فلسطينياً بينهم أكثر من مائة في حفل تخرّج دفعة من الشرطة، وأدت المعركة إلى استشهاد 1305 فلسطينيين بينهم 410 أطفال و104 من النساء.

وقبلها في معركة حجارة السجِّيل (عمود السحاب) ما بين 2012 و2014، استشهد 191 فلسطينياً بينهم 43 طفلاً، وفي معركة العصف المأكول (الجرف الصامد) في صيف 2014 استشهد 2147 فلسطينياً بينهم 530 طفلاً و302 من النساء، وكان بين الشهداء 70 عائلة قُتلت بالكامل دونما إنذار.

أما في معركة سيف القدس (حارس الأسوار) عام 2021 استشهد 260 فلسطينياً بينهم 66 طفلاً و40 امرأة، وارتكب الاحتلال 19 جريمة قتل بحق عائلات ارتقى منها 91 شهيداً.

هل تفلت “إسرائيل” من العقاب؟

في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 مزق السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة حاييم هيرتزوغ، وهو والد الرئيس الإسرائيلي الحالي إسحق هيرتزوغ، على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرارَ الذي اتخذته الجمعية باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.

وأعادَ هذا المشهد جلعاد إردان في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021 على المنصة نفسها عندما مزق في وجه دول العالم تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وأخبرهم أن مكانه سلة المهملات، بل وانتخب إردان نفسه لاحقاً نائباً لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة!

من الواضح أن الكيان الصهيوني استند في إنشائه و”شرعنة” نفسه دولياً على القوى الكبرى في العالم الغربي ونفوذها في المنظومة العالمية، وعلى نفوذه الفعال داخلها.

وتحت هذا الغطاء جرت الهجرة اليهودية لفلسطين تحت الاحتلال البريطاني، وحصل الصهاينة على قرار تقسيم فلسطين 1947، وهجّر الصهاينة الشعب الفلسطيني واستولوا على معظم أرضه في حرب 1948، واحتلوا باقي فلسطين سنة 1967.

وتقف الولايات المتحدة وشركاؤها في وجه إنفاذ أكثر من 900 قرار دولي للجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤسساتها ضد الاحتلال، كما تستخدم الفيتو لمنع صدور أي قرارات ملزمة للكيان الإسرائيلي عن طريق مجلس الأمن.

وتحت هذا الغطاء من القوى الكبرى ظلت “إسرائيل” دولةً فوق القانون، وخارج منظومة الضغوط والعقوبات. وهو ما منحها الجرأة على الاستمرار في احتلالها وعدوانها على مدى عشرات السنوات، وعلى التعامل بعجرفة وفوقية مع المنظومة الدولية.

وتستفيد “إسرائيل” من نفوذها الإعلامي العالمي في تقديم نفسها كـ”واحة” للديمقراطية والتقدم في الشرق الأوسط، وفي تشويه شعوب البلاد العربية والإسلامية، وخصوصاً الإنسان الفلسطيني ومقاومته المسلحة. كما تستفيد من تكريس عقدة “الهولوكوست” والاتهام بـ”العداء للسامية” في العالم الغربي لحشد التأييد لها، وإسكات الناس عن جرائم الاحتلال وانتهاكاتها.

يضاف إلى ذلك ما للّوبيات المؤيدة للكيان من نفوذ سياسي واقتصادي، يجعل من العسير توفير فرص عادلة للرواية الفلسطينية العربية الإسلامية أمام الإنسان الغربي.

ولذلك، حازت كذبة قتل كتائب القسام للأطفال التي اخترعها الإعلام الإسرائيلي تبنّياً وانتشاراً هائلاً في الإعلام الغربي وفي الصفحات الأولى للصحف ونشرات الأخبار. بينما لا تحظى المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق النساء والأطفال والمدنيين في القطاع بعُشُر ما يحظى به الإعلام الصهيوني. وهكذا جرى العبث بالرواية المتعلقة بمجزرة المستشفى المعمداني، كما جرى سابقاً العبث والتعاطي العقيم مع اغتيال الجيش الإسرائيلي للصحفية شيرين أبو عاقلة بالرغم من أنها تحمل جنسية أمريكية.

وعندما شكلت الأمم المتحدة لجنة “جولدستون” للتحقيق في العدوان الإسرائيلي على غزة في حرب 2008-2009، رفضت “إسرائيل” التعامل مع اللجنة، ودمرت سمعة رئيس اللجنة جولدستون، وعندما قررت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة فتح تحقيق في الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية، لم يمضِ وقت طويل حتى “استقالت”، وتوقف التحقيق. وهذا ينطبق على لجان التحقيق الأخرى.

ورغم أن العالم صار أكثر وعياً بجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وأخذ التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني في التزايد في العالم الغربي خصوصاً في الأطر الشعبية؛ فإن المنظومة الدولية ما زالت أعجز من أن تُحاسِب أو تعاقب الاحتلال الإسرائيلي. وما زالت الولايات المتحدة توفر للاحتلال حماية وغطاء لجرائمه، وما زالت البيئة العربية والإسلامية ضعيفة ومفككة وأفشل من أن تفرض إرادتها دولياً.

وبالتالي، لم يبقَ أمام الشعب الفلسطيني ومقاومته سوى الاستمرار في الصمود والمقاومة، التي ثبت أن عملياتها النوعية هي اللغة التي تفهمها “إسرائيل”، وهي التي تجبر العالم على الاستماع للحق الفلسطيني، وهي التي تعيد الجميع إلى المربع الأول، بما يمنع تجاوز قضية القدس وفلسطين وحقوق شعبها، خصوصاً بعد أن أثبت مسار التسوية السلمية على مدى عقود عجزه وفشله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com