اللواء محمود الناطور والدكتور يوسف يونس 9-11-2023م: الحرب على غزة: تقدير موقف (3)

ميدانيا:

تواصل القتال في اليوم الـ33 للحرب على قطاع غزة في جميع المحاور واحتدمت المعارك، وكثفت طائرات الاحتلال هجماتها لمساعدة قوات الجيش على مواصلة التقدم في غرب مدينة غزة، بهدف إلحاق أضرار بأنفاق المقاومة وزيادة الضغط على مراكز القيادة والسيطرة. وسط حركة نزوح واسعة للسكان نحو الجزء الجنوبي من قطاع غزة، حيث قامت قوات الاحتلال بفتح “ممر آمن” على شارع صلاح الدين، بهدف انتقال المزيد من السكان المدنيين للسماح بمزيد من حرية العمل للقوات في الميدان.

وتواصل المقاومة الاعتماد على الانفاق الهجومية لتنفيذ عملياتها وهجماتها باستخدام الصواريخ المضادة للدروع، واستطاعت الاستفادة من اعادة تأهيل مترو الانفاق الذي تم استهدافه في حرب 2021، وأصبح سلاح المناورة الرئيسي في عملياتها، بالتزامن مع تواصل إطلاق الصواريخ، التي تراجعت بصورة كبيرة وخصوصاً في شمال قطاع غزة بسبب الهجمات الاسرائيلية المكثفة، وأصبح التركيز على استخدام قذائف الهاون التي تستهدف حشود قوات الاحتلال. ووفق التقديرات الاستخبارية فان استمرار عمليات إطلاق الصواريخ جاء بسبب بنية منظومة الصواريخ التي يمكنها العمل بشكل مستقل عن حالة أنظمة القيادة والسيطرة، اضافة الى سياسة إدارة النار، التي تم تصميمها من أجل الاستمرار في إطلاق النار لأطول فترة ممكنة، حيث يتم إطلاق عددا قليلا نسبيا من الصواريخ، مع ضمان استمرارية الاطلاق، لاثبات أن قدراتها لم تتضرر، لضمان الحفاظ على المعنويات القتالية للمقاتلين والجبهة الداخلية، وهو الامر الذي يركز عليه ايضا الخطاب الاعلامي للمقاومة.

وتستمر المعارك على عدة محاور، بعد استكمال تطويق مدينة غزة، وافاد مواطنون نازحون من شمال قطاع غزة الى جنوبه، عن تقدم قوات جيش الاحتلال في مناطق واسعة شمال قطاع غزة وتحديدا بيت حانون وغرب بيت لاهيا، وفي مدينة غزة وعززت قوات الاحتلال تواجدها في غرب مدينة غزة على محورين شمالا في المنطقة الممتدة من التوام والكرامة الى اطراف مخيم الشاطىء، وفي الجنوب على الطريق الساحلي، من مفترق شارع 10 جنوب المدينة، الى  اطراف شارع عمر المختار في مقابل منطقة الميناء القديمة، وعلى طول طريق شارع القدس، حتى منطقة دوار حيدر، مرورا بالمنطقة الامنية التي تضم المراكز الامنية الرئيسية لحركة حماس، الاستخبارات العسكرية والامن الداخلي والشرطة البحرية والعمليات المركزية، وهو ما يجعلها لا تبعد عن مستشفى الشفاء اكثر من 200 متر. وفي شمال المدينة تحدثت المعلومات عن وصول القوات الاسرائيلية الى منطقة جامعة القدس المفتوحة شرق مخيم الشاطىء، الذي تعرض لتدمير واسع. وتركز قوات الاحتلال ضغوطها على احكام السيطرة على منطقة غرب مدينة غزة كليا من شمالها الى جنوبها، وسيكون التركيز في الساعات القادمة على منطقة شارع الشفاء (شارع عز الدين القسام) لتضييق الحصار على مستشفى الشفاء.

ومع احتدام القتال، يبدو التقدم في هذه المحاور معقداً وصعباً، لأنه اصبح يتركز في المناطق المأهولة بالسكان، حيث تستعدّ قوات الاحتلال لمعارك أكثر شدّة وعنفاً مع وصولها إلى خطوط المقاومة الدفاعية الاكثر قوة، والتي جهزتها المقاومة بالقنابل والأفخاخ المتفجرة، والتي تمر تحتها شبكة من الأنفاق الهجومية، الأمر الذي سيفرض قتالاً احترافياً من مسافة قريبة، ويلاحظ ان تقدم جيش الاحتلال ببطء، يرافقه قدر كبير من نيران المدفعية والهجمات الجوية المتزامنة، حسب طلب القوات البرية وبمسافة أمان قصيرة جداً، مع التركيز على استخدام قدراً كبيراً من قدرته السريعة في إغلاق الدائرة” بين جمع المعلومات والوسائل التكنولوجية وقوة النيران. ولوحظ تغيير في تكتيكات الجيش الاسرائيلي في الايام الاخيرة تمثل في التوسع في استخدام الطائرات المسيّرة في عملياتها الهجومية، ضد عناصر المقاومة والأنفاق الهجومية، والتي تشكل خط الدفاع الأول للمقاومة.

وتتركز عمليات جيش الاحتلال على المنظومة الدفاعية لحماس في مدينة غزة، والتي اصبحت تواجه صعوبات كبيرة في التصدي لوقف حركة القوات الاسرائيلية، التي تتقدم بمساعدة الاحزمة النارية من الطائرات والمدفعية. وتعتمد قوات الاحتلال تكتيكات “الاستطلاع بالقوة”، ما يسمح بالحصول على معلومات دقيقة لحجم قوة واستعدادات المقاومة، ومن ثم الانتقال الى استراتيجية “دبيب النمل” (Ant bear strategy)، التي تعني التقدّم البطيء وقضم المناطق خطوة بعد خطوة لتثبيت نقاط الارتكاز التي وصلت اليها القوات المتقدمة، وصولا الى مرحلة الهجوم الكاسح باستخدام سياسة “الأرض المحروقة” باستخدام القصف العنيف للمنطقة، لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية والمادية، ما يسمح للقوات بالتقدم والسيطرة على نقاط استراتيجية هامة.

وتواصل اسرائيل الضغط عسكريا على المناطق السكانية المأهولة شمال قطاع غزة وشرق شارع صلاح الدين، للانتقال الى المناطق الواقعة جنوب قطاع غزة، وتحديدا شرق شارع صلاح الدين، واشارت معلومات الى انه خلال يوم الاربعاء 8-11-2023 نزح حوالي 50 الف مواطن من الشمال الى الجنوب، وهو الامر الذي خلق ازمة انسانية خانقة مع فقدان الكثير من المواد التموينية من الاسواق والاكتظاظ السكاني الغير طبيعي. وقامت قوات الاحتلال اليوم الخميس 9-11-2023م بالنداء عبر مكبرات الصوت في المناطق التي احتلتها تطالب السكان بالمغادرة الى جنوب الزيتون ثم الى جنوب قطاع غزة وهو ما ادى الى حركة نزوح كبيرة جدا اليوم. وهو ما يجعل احتمال وخيار التهجير باتجاه الاراضي المصرية لازال في المخططات الاسرائيلية.

وترى التقديرات العسكرية الإسرائيلية أن أمامها فرصة قصيرة للعمل بتشكيلات كبيرة داخل غزة من أجل تدمير الأنفاق ومراكز القيادة، حيث يتوقع أن تجبرهم الضغوط الدولية على التمركز في مناطق محدودة داخل غزة وتنفيذ غارات ضد أهداف محددة، ما يعزز التقديرات أن تستغرق الحرب أشهر، خاصة ان الهدفان الرئيسيان للحرب لازالا بعيدان عن التحقق وهما: إعادة المختطفين وهزيمة حماس، فالهدف الاول تستبعد التقديرات ان تؤدي العملية العسكرية الحالية الى الإفراج عن المختطفين. وفيما يتعلق بالهدف الثاني، تتوقع التقديرات ان يستغرق وقتاً طويلاً، وستكون هناك حاجة إلى عمليات أكثر عنفاً، في وسط وجنوب قطاع غزة، وهو ما يتعارض مع الموقف الامريكي الذي يضغط لتقليص العملية الى بضعة أسابيع. واشارت معلومات ان البنتاغون يعارض التواجد الدائم للقوات الاسرائيلية في داخل قطاع غزة، ويفضل التركيز على اقتحامات عسكرية لأهداف معينة، خاصة ان مشاهد الدمار في قطاع غزة أصبحت تجعل الرأي العام العالمي يميل ضدها، ولذلك ومن أجل محاولة تقليص الأضرار، فإن إسرائيل وافقت على زيادة المساعدات الإنسانية لجنوب القطاع.

وتواجه قوات الاحتلال نقطة ضعف رئيسية تتمثل في ان القوات البرية، وخصوصا الاحتياط، غير مدربة وغير مؤهلة لمهمة معقدة جداً في منطقة مبنية، ما يرفع حجم الخسائر التي ستلحق بتلك القوات، ومع تقدمها ستواجه مخاطرة أن تصبح القوات ثابتة ومكشوفة، حيث تصبح عرضة لعمليات المقاومة. خاصة ان الجيش الإسرائيلي أدخل قوات كبيرة إلى شمال القطاع، تتحرك في عربات مصفحة، ووفق نموذج حرب العصابات فان هذه التحركات تخلق للعدو الكثير من الأهداف.

بالتزامن مع معلومات عن اتصالات أميركية قطرية مصرية قد تفضي لهدنة إنسانية يتم خلالها إطلاق سراح ما بين 10 و15 أسيراً، حملة الجنسيات الاجنبية والمصابين، رفع الجيش الاسرائيلي وتيرة عملياته العسكرية، ويصر على عدم ادخال الوقود، ويطالب إطلاق سراح جميع المخطوفين المدنيين، مقابل وقف لإطلاق النار لمدة خمسة أيام، واتصل الرئيس بايدن مع نتنياهو مطالبا اياه بضرورة الموافقة على الهدنة الانسانية، وتتخوف التقديرات الاسرائيلية من ان دخول الجيش إلى عمق المنطقة المأهولة في غزة، سجعل وقف إطلاق النار اكثر صعوبة، حيث سيكون الاحتكاك قريب بين الجيش وحماس. ووفق التقديرات فإنه ونظرا للضغوط الاميركية المتوقعة على اسرائيل، يكثف الجيش الاسرائيلي عملياته لاحكام السيطرة على غرب مدينة غزة ليتمكن من عرضها كإنجاز عسكري ونقطة انكسار لحماس التي تواصل القتال.

 

 

سياسيا:

بينما تحاول إدارة بايدن إظهار نوع من الاستقلالية حينما يتعلق الأمر بالخطط العملياتية الإسرائيلية، وأنها «لا تتدخل في فرض رؤيتها على إسرائيل»؛ تشير مصادر إلى أن واشنطن تحاول إقناع تل أبيب بضرورة إعادة النظر في «الاستراتيجية القتالية» بسبب الخسائر الفادحة في الأرواح نتيجة «المرحلة الثانية» في الحرب، الأمر الذي سيحرِّك الرأي العام الدولي، ويُحرج السلطات المؤيدة للحرب، وسينعكس سلباً على العلاقات مع الدول العربية. ووفق المعلومات فقد نصح العسكريون الامريكيون اسرائيل باستبدال الاستراتيجية القتالية القائمة على القصف المكثف والشامل «carpet bombing»، بإستراتيجية «الضربات الجراحية»؛ أي تلك المحددة بالأهداف العسكرية، الامر الذي تعتبر اسرائيل ان من شأنه اطالة أمد الحرب، ولن يحقق الأهداف المنشودة، وبالتالي يتحول هدف هزيمة حماس من هدف تكتيكي إلى استراتيجية طويلة الأمد.

وترتكز استراتيجية إدارة بايدن باتجاه الحرب في غزة، على هدفين رئيسيين : الاول القضاء على حماس، والثاني تجنب نشوب حرب إقليمية، وتطرح هذه الاستراتيجية تساؤلات بشأن النتائج الاستراتيجية للحرب وكيفية إدارتها، وصياغة سياسات واضحة لما بعد انتهاء القتال، والتي لا يبدو أنها واضحة أمام إدارة بايدن. واظهرت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة، أن هدفها يتعدى البحث في «هدنة إنسانية مؤقتة» إلى خلق وقائع جديدة، سياسياً وعسكرياً وإقليمياً، والبحث في مستقبل قطاع غزة، على الرغم من عدم وجود خطة جاهزة، الا انه يتم تداول افكار ومقترحات لتدويل إدارة قطاع غزة بالتعاون مع الأمم المتحدة، واستدعاء «قوات حفظ سلام دولية» من دول المنطقة، او تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية، ومدى إمكانية طرح «حل سياسي» شامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتواجه هذه الافكار الكثير من التحديات، خاصة انها تتطلب عملاً تحضيرياً دبلوماسياً كبيراً؛ فالسلطة الفلسطينية ضعيفة لا يمكنها أن تلعب أي دور في غزة، وسيكون على الإدارة الدولية مهمة إعادة تأهيلها، والدول العربية تعتبر التدخل في الشؤون الفلسطينية مخاطرة سياسية. ويتم تداول عدة أفكار لتقصير العملية:

الخيار الاول: إمكانية السماح بخروج عناصر الجناح العسكري لحركة حماس وقادة الحركة، من قطاع غزة، مقابل الإفراج عن المختطفين، وفق نموذج بيروت عام 1982، وإقامة نظام جديد وخلق ردع إقليمي لن يتطلب اعادة احتلال القطاع سيكلف الكثير من الخسائر. وظهر موقف متشدد في الحكومة يرى بضرورة إسقاط حماس أولا، وبعد ذلك، يستمر الجيش في السيطرة على الأمن، وفي المستقبل، سيتم تسليم المسؤولية الى السلطة الفلسطينية، مع استمرار حرية العمل الامني لإسرائيل.

الخيار الثاني: تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، وهو أمر مرفوض كلياً من السلطة، وهو أيضاً أمر شِبه مستحيل حصوله حتى افتراضياً.

الخيار الثالث: إنشاء سلطة محلية تقوم بتأمين الاستقرار لإسرائيل ضمن مسؤوليات أخرى تتعلق بإدارة القطاع، وهو أيضاً يعكس كلياً عدم الإدراك لوضع غزة، أيّاً كانت العناوين الأيديولوجية والسياسية التي تحملها الأطراف الفلسطينية المُمسكة بالقرار السياسي في لحظة معينة.

معضلة كبيرة تواجهها واشنطن لإخراج حركة حماس من معادلة غزة، فإدارة غزة بدون حماس لا يبدو خيارا ممكنا في ضوء المعطيات الراهنة، حيث سيكون خيار حماس هو استمرار القتال لإظهار تعذر شطبها من المعادلة، مع المراهنة على اتساع النزاع وانخراط أطراف المحور الذي تنتمي إليه في المعركة، خصوصا مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية في قطاع غزة، وهو الامر الذي تدور حوله الكثير من التساؤولات في ضوء الحشود العسكرية الأميركية، التي يبدو انها موجهة الى ايران وحزب الله بالدرجة الاولى، قبل حماس.

وعلى الجبهة الشمالية، ومع تواصل التصعيد التدريجي، تشير التقديرات الاستخبارية أن حزب الله لن يفتح حربا شاملة، الا ان التطورات الميدانية تفرض على الجيش الإسرائيلي أن يكون جاهزاً، وسيحاول الاكتفاء بهجمات محدودة، فإسرائيل ليست مهتمة بجبهة ثانية من شأنها أن تصرف الانتباه عن الحرب في غزة. وتتخوف التقديرات أن تقدم الجيش إلى عمق غزة قد يدفع حزب الله إلى تصعيد ردوده وزيادة مدى اطلاق الصواريخ، ولذلك جاءت زيارة رئيس الأركان هرتسي هاليفي إلى مقر القيادة الشمالية، بمثابة رسائل إلى حزب الله بأن إسرائيل مستعدة أيضاً للحرب على الجبهة الشمالية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com